الاثنين، 31 أغسطس 2015

بين تركيا و اليابان .. العامل المشترك






الكاتب المعروف يوسف إدريس زار اليابان عدة مرات ، و لقد قال لي : انه كان يبحث عن سر نهضة اليابان التي ادهشت العالم . هو نفسه كان مستغربا و يريد ان يعرف الاسباب العميقة التي جعلت بلدا صغيرا معزولا كاليابان يصبح قوة صناعية و اقتصادية كبرى ، و بعد الزيارة الثالثة سألته : هل وجدت الاجابة في اليابان ؟ قال لي نعم ، عرفت السبب. مرة كنت عائدا الى الفندق في وسط طوكيو حوالي منتصف الليل ، و رأيت عاملا يعمل وحيدا . فوقفت اراقبه لم يكن معه احد و لم يكن يراقبه احد و مع ذلك كان يعمل بجد و مثابرة كما لو ان العمل ملكه هو نفسه . عندئذ عرفت سبب نهوض اليابان و هو شعور ذلك العامل بالمسؤولية النابعة من داخله بلا رقابة و لا قسر . عندما يتصرف شعب بكامله مثل ذلك العامل فان ذلك الشعب جدير بان يحقق ما حققتموه في اليابان.

لست يوسف ادريس ، و لكن يحق لي ان ابحث عن اسرار النهضة أيضا ، فأما أنا فقد كنت أملؤ عيني من التجربة التركية ، و قبل اليوم كان تخميني يميل إلى تزكية الطفرة السياسية التي عاشتها البلاد ، قبل اليوم ، لأنني منذ برهة كنت أقرأ كتاب " العرب من وجهة نظر يابانية " الذي اقتبست منه المقطع في الأعلى .. عندما دخل عندي أحد الأتراك الذين قُدر لي أن أحتك بهم مؤخرا .. لم اكن انزعج منهم أبدا ، و لكن انزعجت من صعوبة التواصل بيننا لأنهم لا يتكلمون إلا التركية .. و بخليط من كلمات عربية و أجنبية و لغة الإشارة أردت أن أسأله عن عدم سعيه لتعلم الانجليزية على الأقل بحكم طبيعة عمله التي تفرض عليه التجول بين الدول .. تحدثنا لبعض الوقت ، إذا صح وصف ما دار بيننا بالحديث .. ثم ربتت على صدري و قلت له : لازم إرادة . حتى تتعلم اللغة. la volonté  .. قال لي بسرعة : أنت لازم إرادة .. كل يوم تجي عندي تسألني .. وينو دفتر ؟ و كان قد انزعج آنفا من كثرة ما أطلب مساعدته و طلب مني أن أدون حتى اتعلم و أتصرف لوحدي .. لكنني استهترت فعلا و لم اطبق ما طلبه .. لذلك أخذني الحياء من توبيخه  لي .. و ربما رأى مني ذلك ، فاستأنف معللا .. " لازم أمانة .. مسؤولية اسمها ؟ ... لازم بروفيشيانيلزم ( يقصد الاحتراف ) .. أنا أروح .. انتا لازم ما تحتاج أنا " ثم عاد إلى ابتسامته المليئة بالحياة و لم يزد .. و عدت أنا لأحاول التفكر فيما قاله لي .. مثل العامل الذي رآه يوسف إدريس كان هذا التركي بعيدا عن رئيسه بآلاف الأميال ، كان غضا لا يكبرني إلا ببضعة أعوام .. لكن كأنما فطر على حب الحيوية .. كنت أراه كالنحلة لا يكل و لا يمل .. و بدأت أتقبل منذ اليوم ان تركيا تدين لنزاهة العامل البشري بقدر ما تدين للسياسة .. و أقول عندما يتصرف شعب بكامله مثل هذا العامل فان ذلك الشعب جدير بان يحقق ما حققته تركيا.