الكاتب المعروف يوسف إدريس زار اليابان عدة مرات
، و لقد قال لي : انه كان يبحث عن سر نهضة اليابان التي ادهشت العالم . هو نفسه كان
مستغربا و يريد ان يعرف الاسباب العميقة التي جعلت بلدا صغيرا معزولا كاليابان يصبح
قوة صناعية و اقتصادية كبرى ، و بعد الزيارة الثالثة سألته : هل وجدت الاجابة في اليابان
؟ قال لي نعم ، عرفت السبب. مرة كنت عائدا الى الفندق في وسط طوكيو حوالي منتصف الليل
، و رأيت عاملا يعمل وحيدا . فوقفت اراقبه لم يكن معه احد و لم يكن يراقبه احد و مع
ذلك كان يعمل بجد و مثابرة كما لو ان العمل ملكه هو نفسه . عندئذ عرفت سبب نهوض اليابان
و هو شعور ذلك العامل بالمسؤولية النابعة من داخله بلا رقابة و لا قسر . عندما يتصرف
شعب بكامله مثل ذلك العامل فان ذلك الشعب جدير بان يحقق ما حققتموه في اليابان.
لست يوسف ادريس ، و لكن يحق لي ان ابحث عن اسرار النهضة أيضا ، فأما
أنا فقد كنت أملؤ عيني من التجربة التركية ، و قبل اليوم كان تخميني يميل إلى
تزكية الطفرة السياسية التي عاشتها البلاد ، قبل اليوم ، لأنني منذ برهة كنت أقرأ
كتاب " العرب من وجهة نظر يابانية " الذي اقتبست منه المقطع في الأعلى ..
عندما دخل عندي أحد الأتراك الذين قُدر لي أن أحتك بهم مؤخرا .. لم اكن انزعج منهم
أبدا ، و لكن انزعجت من صعوبة التواصل بيننا لأنهم لا يتكلمون إلا التركية .. و
بخليط من كلمات عربية و أجنبية و لغة الإشارة أردت أن أسأله عن عدم سعيه لتعلم
الانجليزية على الأقل بحكم طبيعة عمله التي تفرض عليه التجول بين الدول .. تحدثنا
لبعض الوقت ، إذا صح وصف ما دار بيننا بالحديث .. ثم ربتت على صدري و قلت له :
لازم إرادة
. حتى تتعلم اللغة. la volonté .. قال
لي بسرعة : أنت لازم إرادة .. كل يوم تجي عندي تسألني .. وينو دفتر ؟ و كان قد
انزعج آنفا من كثرة ما أطلب مساعدته و طلب مني أن أدون حتى اتعلم و أتصرف لوحدي ..
لكنني استهترت فعلا و لم اطبق ما طلبه .. لذلك أخذني الحياء من توبيخه لي .. و ربما رأى مني ذلك ، فاستأنف معللا .. " لازم
أمانة .. مسؤولية اسمها ؟ ... لازم بروفيشيانيلزم ( يقصد الاحتراف ) .. أنا أروح ..
انتا لازم ما تحتاج أنا " ثم عاد إلى ابتسامته المليئة بالحياة و لم يزد .. و
عدت أنا لأحاول التفكر فيما قاله لي .. مثل العامل الذي رآه يوسف إدريس كان هذا
التركي بعيدا عن رئيسه بآلاف الأميال ، كان غضا لا يكبرني إلا ببضعة أعوام .. لكن كأنما
فطر على حب الحيوية .. كنت أراه كالنحلة لا يكل و لا يمل .. و بدأت أتقبل منذ
اليوم ان تركيا تدين لنزاهة العامل البشري بقدر ما تدين للسياسة .. و أقول عندما يتصرف شعب بكامله مثل هذا العامل فان ذلك الشعب جدير بان يحقق ما
حققته تركيا.